السبت، 2 فبراير 2013

المقرنصات

تَرحالُك ضَيَّعَ أيَّامِي
إن ضَاعَ العُمرُ فَهلْ يَرجِعْ ؟
أنا أسألُ نَفسي أحيانًا
مَنْ فينا ضَاعَ ، ومَنْ ضَيَّعْ ؟
من قصيدة وبعدنا ياحبى الأوحد لعبد العزيز جويدة


المقرنصات تزين أعلى النافذة, قصر الحمراء
المُقَرْنَص (وجمعه: مُقَرنَصات) من عناصر العمارة الإسلاميّة المميّزة لها. يشبه المقرنص الواحد -إذا أُخذ مفصولاً عن مجموعته- محراباً صغيراً، أو جزءً طولياً منه. وهو ذو أنواع وأشكال متعددة، ولا يُستعمل إلاّ متكاثراً متزاحماً بصفوف مدروسة التوزيع والتركيب، متجاورة متعالية، حتّى لَتبدو كلّ مجموعة من المقرنصات وكأنّها بيوت النحل أو أقراص الشَّهد.. تتلاصق خلاياها وتجمع بين عناصرها خطوط وكُتَل متناغمة، رياضيّة التصميم، متناهية في الدقة، تؤدي وظيفة معمارية محددة، ودَوراً زخرفياً جمالياً يتجاوز كلّ حدود، وكأنّها منحوتات «سُرْيالية» ذات مدلول رمزي وبُعد ما ورائي. مع المقرنصات لا تنتهي المساحات، بل يتصل بعض الجدران ببعض وبالسقوف والقِباب والشرفات، ولا يتوقف النظر عند حدّ، وكأنّها مرتبطة بالزخرفة التي لا بداية لخطوط زخارفها ولا نهاية. تغطّي المقرنصات المجالات المقعّرة والتقاءَ السطوح الحادّة الأطراف في الأركان بين السقف والجدران وأسفل الشرفات في المآذن ورؤوس مداخل المنابر. وهي تقضي أيضاً على مناطق الانتقال المفاجئ من مربّع قاعدة القبّة إلى الشكل الدائري. وهي تهيمن بشكل خاص على الحنايا الركنية وسماء القباب وطاساتها الخارجية.
والمقرنصات هي زخارف تشبه خلايا النحل· استعملت في المساجد كعامل إنشائي· ثم استعملت كعامل زخرفي للتجميل· وقد بدأ ظهور المقرنصات في القرن الحادي عشر اليملادي· ثم أقبل رجال المعمار على استعمالها في المباني الإسلامية وبناء المساجد· وأصبحت من سماتها الظاهرة في تصميم الواجهات والمآذن والقباب والأسقف الخشبية والأعمدة· واختلفت أشكالها باختلاف الزمان والمكان· والغرض الذي تعمل من أجله. والأصل في استعمال المقرنصات كعامل إنشائي كان للتدرج من السطح المربع إلى السطح الدائري الذي يراد إقامة القباب عليه· وقد طور العرب كل الأفكار القديمة وتوصلوا في العصر الإسلامي الزاهر إلى فكرة الانتقال من المربع إلى المثمن لبناء القباب عن طريق المقرنصات التي أخذت تنتشر بسرعة· فاستعملت في القباب والمآذن والأسقف الخشبية والأعمدة وغيرها من عناصر البناء الإنشائية والزخرفية· كما أخذت المقرنصات أشكال متعددة حسب الاستعمال· وحسب الشكل المطلوب.
يقول الباحث علي اللواتي في تعريفه: «هو عنصر ينتمي في آن واحد إلى العمارة والزخرفة، ويتكوّن من تجمّع عناصر في شكل مستويات منحنية ترجع في الأصل إلى تنضُّد التجاويف الحاصلة في مستوى العقود الركنيّة عند المرور من المستوي المربع إلى الدائرة في القباب الإيرانية».تعود نشأة المقرنصات إلى بداية انتشار استخدام المثلّثات الكرويّة المتدلية pendentives في أركان الفراغ المعماري كعنصر إنشائي للوصول إلى التغطية القببية وأنصافها، إذ يرجع الفضل في ابتكارها وتطورها إلى العرب الساميين، ليتمّ بوساطتها الانتقال والتحول من الشكل المربع إلى المستدير «الدائرة» لترتكز على الحافّة السفلى للقبّة.ومن الأمثلة المهمة في بلاد الشام لقباب محمولة على مثلّثات كرويّة spherical triangles، من نهاية القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الميلادي مقرنصات قصر النويجس بالقرب من عمّان، وفي حمّام بالقرب من البتراء (الأردن). ولقد سميّت المثلّثات الكرويّة بالطاقة المفردة أو عقد الزاوية، وثمة عدد من الأمثلة على استخدامها في العهد الساساني في آسيا الوسطى، تعود إلى القرن الثالث الميلادي، وفي قصور فيروزباد، وشيرين، وسرفستان.استخدم البيزنطيون أيضاً المثلثات الكروية في التغطية القببية كحنيات ركنية، في تحفة الفن البيزنطي «كاتدرائية آية صوفيا» في إصطنبول، وذلك بمنزلة هوابط تزيينية.وفيما بعد حدث تطوير للطاقة المفردة «المثلّثات الكرويّة أو الحنيات الركنية»، يعود الفضل فيه إلى الإيرانيين، لتصبح تسميتها فيما بعد المقرنصات. وهناك أمثلة على ذلك في مدفن «غنادي كابوس» Gunadi Kabus، وفي كورنيش مدفن «جنبادي علي» Gunbadi Ali، وفي أرمينيا، وفي مقام Timi بالقرب من بخارى.وفي عام 1956 تمّ اكتشاف قطع عدة من مواد مختلفة، مابين الطين والآجر والسيراميك، وذلك في قلاع بني حماد في شمالي إفريقيا، وقد عُدَّت هذه القطع بتشكيلاتها الطريفة والغريبة أقدم العناصر القريبة في تكويناتها إلى المقرنصات.وهناك عدد من الأمثلة المعماريّة المبكّرة التي استخدمت الطاقة المفـردة «الحنية الركنيّة» مثل قُصَير عمرة، وحمام الصرخ في الحجرة الساخنة في الأردن، وفي جامع أحمد بن طولون في مصر. وبازدهار العمارة الإسلاميّة تطورت المقرنصات وازدهرت في معظم البلاد التي انتشر فيها الإسلام.وما يوجد في المغرب والأندلس يدل على أن المقرنصات عنصر متميّز من عناصر التزيين الداخلي، إذ طورت واستخدمت الاستخدام الأمثل في ظلّ دولة الموحّدين في القرن الثاني عشر ومنتصف القرن الثالث عشر، ومن ثمّ تابع المرينيّون والسعديّون تطويرها حتى القرن السادس عشر، ومن أهم الأمثلة في الأندلس قصور الحمراء التي بناها السلطان يوسف الأحمر (733 - 755 هـ/ 1333 - 1354 م)، وابنه محمد الخامس (755 - 792 هـ/ 1354 - 1391 م)، حيث أدت المقرنصات دوراً مهماً في العمارة الداخلية لتلك القصور بتنوعها ووفرة استعمالها في تغطية القباب والأركان والطنف والأقواس.أما في بلاد الشام فقد استخدمت أوّل مرّة في العناصر المعمارية والزخرفية في العهد السلجوقي والأتابكي ما بين 1075 - 1175 م، ومن أهم الأمثلة الموجودة في دمشق والتي شيّدها الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي الملقّب بالشهيد، القبّة والقبوَة بالمدرسة النورية الكبرى في سوق الخياطين، وقبّة البيمارستان النّوري وقبوته في محلة الحريقة، والتي تغطّيها المقرنصات من الداخل والخارج.وفي العهد الأيّوبي الذي امتدّ من 1174 إلى 1259 م صارت العناصر في العمارة والزخرفة أكثر استقراراً باستعمال الحجارة المنحوتة، وشيوع استخدام المقرنصات الحجرية في مداخل الأبنية العامّة مثل المدارس والبيمارستانات.أما في العهد المملوكي الذي امتدّ من 1259 - 1516 م- وهي فترة طويلة نسبياً تميزت بالترف والإسراف في التزيين والزخرفة- فقد استعملت الحجارة المنحوتة والملوَّنة، وصارت المقرنصات دلّايات منحوتة تُستخدم في مداخل الأبنية الدينية، في أفاريز المآذن وشرفاتها والواجهات الداخلية والخارجية لمختلف الأبنية العامة، والأمثلة عليها كثيرة في بلاد الشام ومصر.وفي العهد العثماني أخذت المقرنصات تظهر بأشكال مختلفة، ومالت إلى الأشكال الموشوريّة، واستخدام الخطوط المستقيمة في محاريبها، بعد أن زاد تنوّعها واستخدامها، ولم يعد يقتصر وجودها في الأماكن العامّة والدينيّة، بل استخدمت في الأبنية السكنية وفي مداخل الخانات وفي السُبُل وفي أعالي النوافذ وتيجان الأعمدة وفي الأسقف والمنابر وقطع الأثاث. وكان لدخول التخريم إلى سطوحها دور مهم في خلق تناغم جديد مابين الظلال الناتجة من الكتل النافرة والغائرة في التكوين. والأمثلة التي تعود إلى العهد العثماني كثيرة جدّاً ومنتشرة في كثير من مدن تركيا وبلاد الشام ومصر.ومن الجدير بالذكر أنّ المقرنصات قد نُفّذت بمواد مختلفة من أهمّها الحجر والخشب والجصّ، وغُطّيت ولُوّنت بأنواع مختلفة من الطلاء والقاشاني أيضاً.إن التكوين المُقرنص تكوين ثلاثي الأبعاد فيه محاريب ملساء تحوي خطوطاً وحنايا بسيطة أو مظلّيّة وأقواساً ودلّايات وتجاويف ونوافذ مفتوحة. وبالاطلاع على مسقط أو مخطّط أي تكوين مؤلّف من المقرنصات يتبين أنه عبارة عن زخرفة مؤلّفة من عدد من الأشكال النجميّة والمضلّعات الهندسية.مازالت المقرنصات تستخدم حتى اليوم لأهمّيّتها التشكيليّة، وإن في ذلك استمراراً وحماية للطابع الإسلامي. ففي المغرب العربي وسورية ومصر ثمة حرفيّون ابتكروا أبجديّة خاصّة لتأليف المقرنصات الخشبيّة، من قطع مختلفة ومتنوعة تتجاوز اثنتي عشرة قطعة، لكلّ منها شكلها واسمها الذي يختلف مابين دولة وأُخرى، وذات مقاييس محددة يتم تحديدها وفق المكان الذي ستتوضّع فيه. وهناك محاولات كثيرة لمعماريّين معاصرين من مختلف دول العالم للاستفادة من المقرنصات في التكوين العام للمباني، وخلق تكوينات زُخرفيّة مستوحاة منه أو فيها محاكاة للمقرنصات التقليديّة بمواد وخطوط تتناسب مع العمارة الحديثة.
إن لإسم "المقرنص" وقعاً جميلاً على مسامع العارفين بعمارة المسلمين وأساطين حرفة البناء ، وأجمل من ذلك على ناظر عشاق الجمال والباحثين عنه ، و الهائمين بلعبة الحجوم وحركة النوروالظلال.
ورد اسم "مقرنص" في المشرق و "مقربص" في المغرب الإسلامي أو "الدلايات" في مصر وهو في المعجم الوسيط "مقرنس" و(قرنس السقف والبيت زينه بخوارج منه ذات تدريج متناسب فهو مقرنس) . وهي كلمة مفردة تعني الجمع وفحواها التدريج . ويعتقد أنها كلمة اقتبست وعربت بإضافة "الميم" العربية لها ، بغرض تفعيل اللفظة اليونانية (كارنيس Karnies) ومعناها الطنف أو النتوء الخارج من البناء والذي مازال له نفس المعنى في اللغات الأوربية ( CorniceأوCornish) . اما الدارسون لعمارة المسلمين من الأجانب والمستشرقين، فقد أطلقوا عليه اسم (ستالكتيت Stalactite) أو الهابطات، بما خال لهم في محاكاته لتلك الأصابع الجصية الهابطة من سقوف الكهوف.
والمقرنص عنصر بنائي ذو مصادر وأصول إنشائية . وهيأة المقرنص تتكون من مجموعة من الحنايا المقببة التي يتدلى أو يستقر بعضُها فوق بعض بطبقات أو صفوف طنفية ، وعادة ما تكون متدرجة بشكل متناوب وتدعى تلك الصفوف "حطات" ، وابسُطها يبدأ بواحدة ثم بثلاث حنايا. و يمكن أن يكون ذلك باكورة استعماله ومبرر ظهوره في زوايا القباب المشادة فوق الحجرات المربعة، والتي تسمى "المثلثات الكروية Squinches " ،التي يراد منها تشكيل واسطة متدرجة لنقل العزوم إلى الحيطان الجانبية وليس إلى الركن القائم الذي ألغي وحلت محله تلك الحنايا التي يراد منها التهيئة للشكل المثمن الناشئ فوق الشكل المربع للحجرة ليحتضن تباعا قاعدة أو "رقبة" القبة المتوافق مع هيئتها الدائرية. والمثلثات الكروية هي كتل على شكل مثلثات قمتها في الأسفل وقاعدتها المقوسة والمطنفة إلى الأمام في الأعلى .
وتكمن عبقرية عَمارة المسلمين وتميزها عن مدارس العَمارة الأخرى بحذلقتها وإبتكاراتها العضوية حينما استطاعت أن تؤقلم وتنقل هذا العنصر الإنشائي البحت إلى عالم الفن و المنظومة الجمالية للعَمارة بدون عناء كبير والذي تسنى له أن يغنيها ويغتني بها ،وينسجم تباعا مع المنهج التجريدي الذي اختطته الفنون والعناصر الجمالية المتماشية مع مفهوم الفن العقيدي الباحث عن روحانيات الأمور بعيدا عن ظاهرها الملموس وهذه ريادة فنية سبقت بها فنون القرن العشرين.
ويمكن أن يكون من أكثر الأمور الجديرة بالإنتباه هو ربط وتآلف العناصر العَمارية والزخرفية في المباني الإسلامية ، وهذه من أكثر القضايا ذات الدلالات العقلية التي يمكن أن يكون وراءَها كمُ من التطبيقات والنظم الهندسية والرياضية التي تمخضت عنها الثورة العلمية التي جاء بها المسلمون والتي تجسدت في مناحي الحياة العملية والفنية . يقول (أوليك كرابر) بهذا الصدد (إن المقرنصات كأنها عملت من وحي التصميم المعماري للمبنى، ونجدها في بعض الأحيان تُلفت النظر الى أجزاء المبنى الرئيسية). ونلمس في خلال ذلك أن قوة العَمارة تكمن في مدى التجانس بين الإنشاء والزخرفة، وخلافه فأنها تنم عن زيف صريح ، أو بكلمة أخرى أن أهمية العمل الفني ككل تزيد على أهمية مجموع الوحدات المتألَف منها.
وفي سياق ذلك نجد المقرنصات التي عولجت بها بطن إحدى قباب قصر الحمراء ، بما توحيه من محاكاة للسماوات الدائرة، ولاسيما عندما يلعب ضوء النهار الدوار لعبَته في حركة الظل الأخاذة المتنقلة الموحية بثبوت المكان وحركة الكون من حوله.
ومن الجدير بالذكر بأن أقدم اللقى الأثرية التي عثر عليها والتي تحاكي هذا العنصر جاءت في بقايا عمائر العراق و فارس العتيقة والذي أعان في تكوينها الخاصية التشكيلية التي يهبهُا استعمال الآجر (الطابوق) في التنفيذ وهي خاصية تعود للعَمارة العراقية القديمة والتي هي الأقرب الى المنطق العقلي في إختراع هذا العنصر و استغلال إمكانياته الذاتية . وقد يكون المقرنص قد ظهر لاحقا ومكملا للنقلة التي حدثت بعد بناء أول قبة في العراق مشادة على الحجرات المدورة بعد الحاجة في تطويرها الى الشكل المربع الذي يحقق إمتيازات وظيفية وشكلية ورمزية ، وبعدما ظهرت الحاجة الى ملء الزوايا الفارغة التي تطورت لاحقا بسبب ملكات مادة الآجر الواهنة. وان واقع الحال المتعارف عليه هنا هو عدم توفر الخشب أو الصخور فيها والذي جعل من هذا أسلوباً حاذقاً للقفز فوقها والاستغناء عنها في الإنشاءات . وهو خلاف ما توفره الجسور الحجرية كما هو الحال في العَمارة المصرية واليونانية العتيقة .
وتشير أقدم الدلائل المكتشفة في العَمارة الإسلامية اليوم إلى أن مبدأ "المثلث الكروي" قد ورد في العَمارة السورية قبل الإسلام وظهر أسفل القباب للعَمارة الباقية في البادية من العهد الأموي . ولكن (ريفيرا) الإيطالي يُرجح أن يكون الرومان قد تركوها هناك ويُرجع (روزنتال) بفضل ابتكارها إلى الآشوريين . ولكن (الدكتور صالح لمعي) يقول بأنها وردت من أرمينيا والجزيرة الفراتية في شمال الرافدين بسبب ظهورها في مصر لأول مرة مجسدة في مسجد الجيوشي للوزير الأرمني الأصل بدر الجمالي عام 1085م .
وقد وردت أولى الأمثلة حتى يومنا هذا في بعض الآثار الباقية والتي كشفت عنها حفائر متحف (الميتروبوليتان) في نيويورك في ضريح (عطا عرب تيم) التي تعود إلى العام 977 م في مدينة نيسابور والمكونة من عناصر بنائية مقعرة بشكل سطوح وبطون توحي بكونها لو اكتملت فأنها تكون عنصر المقرنص بحذافيره .
ومن اقدم الأمثلة الباقية هي الموجودة في مدفن (قندباد قابوس )في مدينة جورجان بايران التي تعود للعام 1006 م وكذلك في الطنف العلوي الموجود على قبر (قندباد علي ) في مدينة أبرقوه بايران منذ العام 1056م . وكذلك في المدرسة النظامية في بغداد عام 1067م وفي سور القاهرة بجوار باب الفتوح عام 1087م ثم بوابة جامع الأقمر الفاطمي من العام 1125 م وكذلك نجده في بقايا قلعة بني حماد الواقعة في وسط شرق الجزائر وتعود إلى بدايات القرن الحادي عشر الميلادي والذي ساعد في إنشائها الصناع المهرة الذين جلبهم مناد بن زيري من أقطار المشرق الإسلامي.ثم المثال الوارد في قصر العزيزة (Laziza ) العربي الباقي في مدينة بالرم في صقلية منذ أيام (الدولة الأغلبية) في تونس من القرن الحادي عشر.
وتشير الدلائل الى إن عنصر المقرنص ينتمي إلى العَمارة الإسلامية. ويشهد على ذلك (جون د. هوك) في كتابه (العَمارة الإسلامية) حيث يقول (لم يرد عنصر المقرنص في أي طراز من طرز العَمارة في العالم المعروفة لحد اليوم ). ولكن وبالرغم من ذلك فلم يرد ذكر دراسة تفصيلية عنه في الكتابات الإسلامية من الفترة الأولى وربما بشيء مقتضب في مرحلة متأخرة ولاسيما فيما يخص الطرح التحليلي لكينونته .وقد نجد من اقدم تلك التحاليل ما ورد من المستشرق (شارل بلان) في أواسط القرن التاسع عشر الذي قال( بأنها نشأت عن ضرورة إحداث الظلال بالوسائل الناتئة ) ، وهذا ما ينافي المنطق الذي يجعل منها عناصر معالجة معمارية في داخل البناء الذي لا يتوفر على ذلك الكم من الضياء لتبرير هذا المغزى، وهذا ما ذهب إليه المستشرق الفرنسي كوستاف لوبون عام 1880 في كتابه (حضارة العرب) حينما ذكر(أن العرب كانوا يكرهون ما كان يحبه الإغريق من الأوجه الملس الموحدة الزوايا والأشكال القائمة فكانت رغبتُهم في ملء زوايا الجدر القائمة وفي وصل القباب المستديرة بما تقوم عليه من الرُداه المربعة وصلا غير محسوس . ينشئون الكوات الصغيرة الناتئة المثلثة الكروية المسماة بالمتدليات لتدلي بعضها فوق بعض كخلايا النحل . وقد استعملت المتدليات في صقلية منذ القرن العاشر والحادي عشر للميلاد وحول عرب الأندلس تجوفاتها الكروية إلى مواشير قائمة ذات وجوه مقعرة) . وهذا التحليل هو الأقرب إلى حقيقة المنطق المعماري والفني بالرغم من مجيئه في فترة مبكرة من تاريخ الكتابة عن عمارة المسلمين .
وفي جل العمائر الإسلامية يمكن أن نجد المقرنص في المواضع التالية للبناء :
1. في الزوايا الأربع التي تقع تحت القباب في البناءات المربعة الشكل .
2. تحت شرفات المآذن ولمبرر التحضير لأطنافها الخارجة عن البدن .أو يستعمل عموما تحت أي طنف في داخل البناء أو خارجه حتى في صيغته النحتية في الخشب أو الرخام الذي تصنع منه منابر المساجد.
3. في معالجة نوع من العقود الحقيقية أو الكاذبة في البوائك التي تعلو بعض الطاقات وخاصة في عمارة المغرب والأندلس .
4. في صنع أحد أنواع تيجان الأعمدة من الحجر أو الخشب .
5. في التسقيف الداخلي لبعض الأروقة المحصورة بين البوائك والحائط الموازي كما في رواق المدرسة الشرابية أو القصر العباسي في بغداد .
6. في التسقيف الخارجي المخروطي الذي ورد متكررا في عمارة الشواهد والقبور للصالحين وصفوة القوم في العَمارة السلجوقية من القرن الحادي عشر الميلادي أو لتبطين القبب المخروطية في آسيا الصغرى وإيران .وأول مثال للقبة المقرنصة نجده في قبة أمام الدور في العراق وأشهرهم قبر زمردة خاتون في بغداد.
7. في الجزء العلوي من باطن فراغ المداخل المضلع وذلك لانتقاله إلى طاسة المدخل (نصف القبة) كما هو الحال في مدخل مدرسة السلطان حسن في القاهرة المبني عام 1356 م .وينطبق نفس الأمر على الإيوانات المستطيلة المقببة كما في العراق وإيران ونجدها في إيوانات مسجد الجمعة في اصفهان .
8. في المعالجات الزخرفية الداخلية لبعض القباب ، كما في إحدى قباب قصر الحمراء التي تنم عن تجانس في السياق المعماري مع الأشكال الزخرفية المبررة لتكسبها جمالية ورمزية.
وتوجد عدة أنواع من المقرنص لكن أهمَها يرد في مصر بأسماء الحلبي والشامي والبلدي ومقرنص بدلاية والمثلث وبغياب المصطلح العربي الموحد فأننا نجد أن لكل بلد عربي أسماءَه الخاصة فمثلا نجد في المغرب قد استعمل أساطين الحرفة (المعلمين ) تسميات للأجزاء السبعة المكونة للمنظومة التركيبية للمقرنص وهي :
(الشربية - تسنية مفتوحة- الكتف-الشعيرة أو السروالية الصغيرة-الدنبوق-اللوزة المستعملة في طاسة الذروة-السروالية أو البوجة-التستية المسدودة). وهكذا نجد لتلك الأسماء أشكالاً مميزة يتم صنعَها من نحت الخشب وتركيب بعضَه على بعض ثم صب القالب السلبي الذي يتسنى لنا استعمالَه في صب المجموعة المراد تركيبها .
وعادة ما يستعمل الجبس أو الحجر الصناعي الداخل في تركيبته طحين الرخام في صب وتجسيد هذا النوع من المقرنصات وخاصة في المغرب العربي وكذلك في مصر التي نجد فيها استعمال الحجر المنحوت أو اقل من ذلك الآجر والخشب ، وهذا يشمل أيضا طراز البناء في الشام والحجاز.أما في العراق واقل منه في الخليج فيستعمل الآجر المركب أو المنحوت في تجسيد هذا العنصر وكذلك المصنوع من الجص والمغطى بالقاشاني الملون أو اقل من ذلك بالمرايا كما في أضرحة (العتبات المقدسة) في بغداد والنجف وكر بلاء والذي ينم عن إبداع رفيع يأخذ بالألباب من جراء إنعكاس الضوء من مجموعة المرايا تلك . ويمكن إجمال أهم أنواع المقرنصات المستعلة في مجمل المدارس العَمارية العربية الأربع :
1.المقرنص ذو المركزين الشبيه بالعقد المخمس المدبب .
2.المقرنصات المدببة وهي مثل العقد المرسوم على الزاوية 30 درجة.
3.المقرنصات الكبيرة ذات مركزين آو مدببة لغرض هيكلي .
4.مقرنصات بطن العقد والمتكونة من حطة واحدة في محل بداية العقد.
5.المقرنصات المركبة بين اكثر من طريقة رسم .
6.المقرنص المتدلي ويقع عادة في باطن العقد
7.المقرنص المخروطي
إن استعمال المواد الحديثة في البناء وخاصة الخرسانة المسلحة ألغى المعالجات الفنية للسقوف المعقودة والأقبية والقباب ، وتماشيا مع هذه المواد فقد حدث انقلاب حقيقيً ألغى كثيراً من الأعراف الموروثة في طرز العَمارات التقليدية ومنها عَمارة المسلمين ، ولكن يبقى الباب مفتوحا على مصراعيه في إيجاد أسلوب جديد لتوظيف هذا النوع من العناصر المعمارية كأن يكون في البناء الهيكلي المتدرج أو في التسقيف الحجمي لعناصر التغطية الفراغية بأسلوب يجعل من هذا العنصر المميز مصدر الهام لجيل المعماريين الجدد في لجة إبداعهم لتكريس استمرار و بقاء خصوصيات عناصر العَمارة الإسلامية.






هناك تعليق واحد: